بين العصر والمغرب سلسلة قصصية للصحفي والقاص المغربي محمد سعيد الوافي ، نظرا للنجاح الباهر الذي حققته . تعيد زايو سيتي نشرها لمن فاتته فرصة الإستمتاع بها
قلم – محمد سعيد الوافي – واشنطن
سنة البلغة
كان شهر رمضان على الأبواب واذكر ان أبي اصدر حكمه بأن يريح البيت من مشاكلي ومشاكساتي مع أخواتي البنات فقرر ان ألتحق بالكتاب كل صباح من الساعة العاشرة صباحا إلى الرابعة بعد الظهر.. لم أكترث للأمر لأن القرار لم يشملني لوحدني بل ضم كذلك حميد وأخوه أحمد وأبناء عمي عمر ولفيف من أبناء الحي ممن أزكمت رائحة فضائحهم كل البيوت حتى أصبحنا نلقب بعصابة الجنون ( الجن ).
كنت منشغلا بصنع كروسة خشبية وأنا أتفنن في جمع قطع من الحديد والخشب وأضواء السيارات البالية .. عندما سمعت أبي يتحدث مع عمي
– غادي ندخل باباه للجامع ونريحهوم من التشيطين ديالو
– إيوا دخلو للمسيد باش داكشي ليما تعلموش فالزنقا يجبرو فالمسيد
– لا .. لا .. على الأقل يحفضلو حزب سبح .. ويطلق لسانو فالقرآن
– غادي يطلق لسانو فقلت الحياء ماشي فالقرآن .. واش هادا عقلك ولا مسلفو..
– المهم .. فالدار آخاي ما غاديش يبقى .. راه كل نهار عامل فضيحة
فهمت أن الأمور تطبخ لكي يتم نفيي إلى المسيد .. كنت في التاسعة من عمري.. عمر أؤرخه بعدد الفلقات والتعليقات التي أهرت رجلاي وحولت مؤخرتي إلى مرتع للضرب بالأحذية البلاستيكية التي كان وجعها ينفد إلى قلبي الصغير فيكاد يصيبه بسكتة فجائية.
إحترت بين الرفض أو التسليم بالأمر فصبحيات رمضان كانت مملة حيث كنا نقتات من فضالات ما تسحر به الكبار وخلاصة الأمر أن متعة رمضان كانت في عرفنا نحن الصغار تبدأ بعد آذان المغرب .
تسللت إلى غرفة جدتي .. كانت رحمها الله هي الملاذ الآمن والحل لكل مشاكلي والورقة الرابحة التي طالما بالغت في استعمالها للوي ذراع أبي أخبرتها أنني سمعت والدي يقول لعمي بأنه سيرسلني للمسيد ..
– مزيان أوليدي .. باش يريحنا منك ومن مصايبك..
– العزيزة .. الجامع .. موسخ .. والفقيه أحمد .. كيبقى جالس يحك ويقشر فالجلدة من رجلو .. آشمن جامع هذا؟؟!!
– أنا بغيتو .. يقشريك الجلدة ديال ظهرك.. سير تلعب .. تلعب بسنانك إن شاء الله..
أدركت أن جدتي لن تطاوعني .. فالمسيد يعني القرآن والقرآن يعني الإيمان والتربية وكلها أمور لا تهاود فيها..قفزت من سور منزلنا نحو بيت عبد الرحمن وأخبرته بالأمر .. فأكد لي أن نفس الحكم صدر عليه ..
– يبدو أنهم إتفقو علينا هذه السنة
– ولا يهمك .. وخا نمشيو للمسيد فالنهار.. الليل طويل اخاي .. آرا ما يتعمل
– المصيبة هو الصهد .. الموت دصهد .. والطاقات ( النوافد ) صغيرة ..
– ولا يهمك .. عطا الله ما يتعمل .. أصاحبي
********
جلست على طاولة السحور بعد أن تامرت مع جدتي بأن توقظني خفية .. وكان لي ما أردت .. التقطت كوب الدانون ..
– حط من يدك .. دانون بعد الماكلة
– وأنا ما بغيت ماكلة.. عطيوني دانون ديالي ..وكولو انتما
– دانون هو لي غادي تاكل غدا على يد الفقيه .. والله يا باباك وشكا لي من فعايلك حتى نعلق والديك من رجليك
– يعني .. غدي تعلق راسك .. والديا هو انت ..
– وكاتجاوب بصنطيحة.. الحمار.. اسكت
– وخا .. أبابا
– الله يلعن بوك .. شحال من مرة قلتليك .. ملي نقوليك حمار ما تقوليش بابا
ضحكت جدتي من أجوبتي المسمومة .. وقهقه الجميع من حواري مع ابي ..فيما سرحت أفكر في أمر المسيد .. السجن..
كان أول يوم بالمسيد عاديا .. فالفقيه كان متعبا .. ربما من فرط الأكل في السحور .. فلا أزال اتذكر أن كل أهل الحي كانوا يسكبون صحونا للفقيه .. والبيض المسلوق للفقيه .. والرفيسة للفقيه .. وكم كنت أستمتع عندما كانت جدتي تطلب مني أن أحمل له الصحن قبل الإفطار .. كنت آكل أحسن ما به من لحم او بيض واقدم له الخضورات المسلوقة..
جلس الفقيه بعد صلاة الظهر يفرك لحيته تارة وتارة يقلم اظافر رجله النتنة . وبين الفينة والأخرى كان يهش علينا كالأغنام بعصاه الطويلة ..
كنا نتجمع كالقطط الخائفة والشاطر من تفادى الضربة ..كان صراخنا يتعالى فنعود لتكرار ما كان يتلوه
– آ الصلاة والسلام على نبينا .. يا محمد يا حبيبنا يا شفيعنا يوم القيامة
محمد بشر لا كالبشر …بل هو كالياقوت بين الحجر
الله يرحم والدين والدينا والله يرحم سيدي الفقيه لي كا يربينا
ثم نتخاطف يده التي كانت رائحة العفن تفوح منها .. نقبلها على مضض . ونتحرر من سجنه لنتفس الهواء وكأننا جردان أطلق سراحها من قفص الحرمان..
توالت أيام رمضان .. وتوالت معها .. الفلقات بكل أنواعها .. لأتف الأسباب وأقوى الأسباب .. والفقيه يزهو ويفتخر بأنه يعلمنا كلام الله .. ولست أذكر مما عملني سوى عبارة محورناها فيما بيننا ضدا في جبروته وقساوته:
– الله يرحم ولدين والدينا .. والله يمسخ سيدي الفقيه لي كايعصينا (كيضربنا )
ناداني ذات صباح .. فنهضت وأنا أجهل سبب دعوتي انا بالذات ..
– ‘جي اداك الجن.. خود هاذ البلغة .. عطيها لعمك علي الطراف .. قولو يصلحها وبقى عندو حتى يكمل وجيبها ورجع ..والله يا باباك وتعطلتي
– واخا ..
– سمعتيني شنو قلت ؟
– سمعت آ الفقيه
خرجت من المسيد وأنا أحمل البلغة بقرطاس من الورق .. اسرعت إلى حيث كان يجلس علي الطراف .أخبرته بما طلبه الفقيه .. فوعدني بأن البلغة ستكون جاهزة بعد صلاة الظهر..
تركته وانطلقت نحو الربوة المجاورة للحي .. وانخرطت في مباراة في كرة القدم .. أما الأقدام فكانت أقدامنا .. فيما كانت الكرة عبارة بقايا شيء بلاتيكي مدور يشبه البطيخة .. كانت كرة البلاستيك هاته من أكبر مصائب مبارياتنا ايام الصبا .. فكنا نلعب ضد الفريق المنافس وضد الرياح وضد طيش الكرة التي كانت تستقر حيثما شاءت دون أي منطق فزيائي . أذكر أنني لعبت حتى نشف حلقي عطشا فكنا ثم اتويت من عين .. كنا نطلق عليها البئر المسوس .. ونعود للعب مرة ومرة ..إلى ما لا نهاية.
أحسست أن الوقت تاخر .. فطرت نحو عمي علي الطراف فلم أجده في مكانه .. سالت البقال الجبلي فأخبرني انه ذهب لبيته بعد صلاة العصر ليرتاح ..
– والبلغة ؟
– آشمن بلغة ؟
– البلغة ديال عمي الفقيه حمد
– الله أعلم أولدي .. شوف إلى تجبرها .. فتش مع البلاغي ..
لم أتعرف على البلغة .. لكنني كنت على يقين ان لونها الأصلي قبل أن يلبسها الفقيه حمد في رجله كان أبيضا ..
– هاذي .. هاذي هي
– دبر راسك .. واش هي بصح ؟
– هي هي أعمي
– يلاه سير .. آجي بعدا .. فين الفلوس
– لا ..لا .. الفقيه .. قال هو لي غادي يخلصو
– حط البلغة ..
– والله العظيم .. وحق لالا مكة ( كنا نقسم بمكة ) ما كانكدب
حملت البلغة .. تأملتها في طريق العودة فبدت لي ناصعة البياض .. تفوح منها رائحة الجلد .. واللصقة .. ( الكولا ) ..اقتربت من باب المسيد .. فلم أسمع صراخ أقراني وكان المغرب على وشك الآذان ..
دخلت على الفقيه حمد فوجدته يفترش المسيد وقد حوله إلى غرفة للجلوس هو وأبناءه وثلة من الأشخاص وهم يلعبون الضاما في انتظار آذان المغرب ..
– جيتي أولد ليهود
– عمي علي .. تعطل .. عاد كملها
– من الصباح أولد الحرام حتى المغرب .. حتى لغدا ونوري باباك الشغل
عدت إغلى البيت وتسللت لغرفة جدتي وانغمست في فراشها مدعيا انني كنت نائما .. سمعت مليكة تتفقدني .. فخرجت وقد تعمدت إغماض عين وفتح أخرى
– أنا كنت فالدار ناعس
– كنت ناعس ؟؟ هدش تعاودو لباباك .. العشيا كلها وهو كيقلب عليك
بحثت عن والدي فقيل لي أنه في غرفته .. ترددت قبل الدخول عنده .. فقررت أن اسأل جدتي عن سر سؤاله عني ..
– فين كنت آ الجن ؟
– كنت ناعس فالفراش ديالك
– كنت ناعس ؟ تنعس ما تفيق بجاه الله والسامعين
– وشكون هما السامعين آ العزيزة ؟
– هادوك لي غادي يبضوا روحك إن شاء الله هاك خود الفلوس .. باك باغي تجيبلو 2 يطرو ديال اللبن من عند المحلبة
– واخا ..
حمدت الله ان الأمر .. هو مجرد سخرة , فوقفت عند المحلبة .. وبين المصطفين .. إلتقت عيني بعيون عمي علي الطراف ..
– وافين البلغة أمسخوط الوالدين ؟
– مسخوط الوالدين هو انت ..
– سكوت الله يعطي لمك اللقوا .. فين البلغة ؟
– عند الفقيه
– وا بنادم .. هاديه .. ماشي بلغة الفقيه ..عندك من دابا حتى لصلاة العشا إذا ما رجعتش البلغة .. غادي نمشي لعند والديك.. إيوا تبارك الله .. والله وما رجعات البلغة حتى نكحلها عليك
******
– ساهلا .. ساهلا .. آصاحبي
– وكيفاش ساهلا .. وكنقولك البلغة فدار الفقيه… وكيفاش ساهلا آ الطولانطي شرح لي ؟
– حضيه .. ملي يدخل يصلي العشا .. سرقها وديها للطراف .. وجيبلو البلغة ديالو .. بلا ما يعيق
كان عبد الرحمن ينصحني وقد أحس أن الأمر أكثر من معقد .. لم اقتنع برأيه كثيرا .. لأن عمي علي الطراف سيكون في المسجد كذلك .. وبين إنتظار هذا ليخرج لأسلمه إياها .. لا .. لا.. صعب .. لكن .. لم أجد حلا غيره ..
دخلت الدار وطلبت من أختي مليكة أن تبحث لي عن الفوقية البيضاء ..
– وعلاش بغيتي الفوقية البيضا.. يكما عندك العرس ؟
– وعطيني القندورة .. غادي نمشي نصلي مع بابا
– ومنين نزلو عليك المسلمين اليوم ؟
– ماشي شغلك ..
كان أبي يمشي نحو المسجد مهرولا .. فكنت أخطو وراءه جريا .. وانا أتعثر بتلابيب ثوبي الطويل .. لم يستوعب هو كذلك .. مسالة أن اترك اللعب واللهو بعد الإفطار وان أتشبث بالذهاب معه للمسجد ..
– الله يرضي أ وليدي .. هاكذا كيكونو الرجال
– آه .. بصح أبا .. الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
– شفتي .. ياك قلتليك .. المسيد غادي ينفعك
– الحمد لله آبا
دخلنا المسجد فنزعت حذائي وانا أتفحص ركام الأحذية .. بالباب .. وفي رمشة عين وقع بصري على بلغة عمي علي الطراف .. حاولت التهرب من والدي .. لكنه إقتادني أمامه .. فصليت ركعتين تحية للمسجد .. وما أن أقيمت الصلاة للعشاء .. وبمجرد أن قال الإمام الله أكبر للسجدة الأولى .. حتى وقفت مثل العفريت وركدت فوق الرؤوس نحو مكان الأحذية .. لم تكن سرعتي كافية ففي لحظة نهض جمهور المصلين من السجدة الأولى .. فوجدت نفسي في مواجهة عباد الله وأنا واقف في الوسط .. فشدني أحدهم من ثوبي فأوقعني أرضا .. ثم سجدوا السجدة الثانية فاكملت طريقي نحو الأحذية .. كنت ارى عبارات الإستنكار على وجوه المصلين .. فلم ينبس أي أحد بكلمة .. انتظرت إلى حين أن يسجدوا للركعة الثانية لأحمل البلغة .. وياليتني لم أفعل ..
وقفت طويلا في انتظار عمي علي فلم يأتي .. وبينما أنا كذلك .. فإذا بي أرى جوقة من الناس يهرولون نحوي .. لمحت والدي من بعيد يلتفت بحثا عني ذات اليمين وذات اليسار .. فأدركت ان خطة عبد الرحمن كانت في قمة البلادة .. كانوا يصيحون وهم يطاردونني ..
– وا شد الساراق .. واشد الشفار .. واشفار البلاغي
أردت إخبارهم بقصة البلغة .. فلم يمهلوني .. كنت أرى الشر يتطاير من عيونهم .. فيما لمحت الفقيه حمد يصرخ بحثا عن بلغته وهو حافي القدمين ..حاولت أن أجري ..فكنت أتعثر في ثوب الفوقية الطويل .. فلما كنت أمسكه بيدي كانت حركاتي في الجري تتباطئ ..وبين تعثر .. وتباطؤ .. وجدت نفسي مطوقا بجيش من الناس ..
– حصلتي .. وفرمضان .. أولد الحرام .. ما حشمتي ما ستحييتي
– والله العظيم آشريف ..والله العظيم خليني .. نقولك .. شفت هاذ البلغة .. ديال …
– زيد قدامي ..زيد
وما هي إلا برهة .. حتى وجدت ابي يتدخل بين الجموع .. كم أحسست بالأمان .. رغم يقيني أنه لا محالة سيضربني .. فقد برز وجهه كطوق نجاة وأنا الطفل الصغير .. المحشور كالفأر المذعور وسط جيش من الناس .. وكل واحد يتهمني بتهمة تهز الجبال ..
مسك بيدي واقتادني لبيت عمي علي الطراف .. خاصمه .. واستلم منه بلغة الفقيه .. وهو يمسك بيدي .. كانه كان بعلم أنني لن افوت فرصة الهرب مهما كان الثمن ..
حسبت الأمر في مخي .. فكان مجموع الفلقات المضمونة هو واحدة من أبي ، والثانية من الفقيه في المسيد صباح الغد .. فلم يكن أمامي من حل سوى الصراخ عند باب المنزل لكي تتدارك جدتي الأمر .
لكن الأقدار شاءت أن تكون جدتي تلك الليلة في بيت عمتي .. ولكم أعزائي القراء أن تتخيلوا .. فكل ما يمكنني أن أؤكده لكم هو أنني ذهبت إلى المسيد في اليوم الموالي على ركبي وقد ربط والدي على ظهري ورقة كرتون كتب عليها .
شفار البلاغي..فكانت أقوى وأكثر الما من أكبر فلقة.
أما الفقيه فلم يمد يده علي .. لأنه لم يجد في جسمي مكان يصلح للضرب.
فأرخت تلك السنة بسنة البلغة.
رحم الله الفقيه حمد وعمي علي الطراف والعزيزة وامواتنا جميعا وعلى رأسهم زمن مسخناه ولوناه فتنكرنا له وتنكر لنا .. فأصبح ابناءنا يعيشون زمنا لايصنعون به ذكرياتهم ولا يدركون له بعدا سوى الإغتراب.
يتبع..
جميل جدا
bravo